الملتقى الثقافي الأول (نموذج تسويق بائس)
د. سعيد بن ناصر الغامدي
كأي منتج يحاول أصحابه تسويقه يمكن أن يكون الفكر والثقافة ، وما حدث في الملتقى الثقافي الأول وقبله، يمكن أن يكون مثالا لهذا النوع من التسويق ،،فقد بدأ الاكتتاب السري لورقات هذا الملتقى الثقافي من خلال خطابات خاصة وجهت لأسماء معينة،وكان لمدير التسويق الأستاذ محمد رضا نصر الله الأمين العام للهيئة الاستشارية للثقافة الدور الأكبر في اختيار أسماء (المساهمين) في (الشركة الثقافية) وكان الأستاذ نصر الله حاذقا بما فيه الكفاية لاستشعار البيئة التنافسية التي يمكن أن تزاحم (بضاعة) (المساهمين المستكتبين)الذين اختارهم على عينه وقلبه وفكره ،ثم أتى ببعض الأسماء من ( أصحاب البضاعة الثقافية الرائجة اجتماعيا وشعبيا) وذلك لرفع العتب ،ودفع تهمة التحيز والاقصاء ،وهي التهمة التي برزت مع بروز أول إعلان صحفي عن (سوق الملتقى الثقافي الأول) وبعض أسماء ( المساهمين بورقات مهمة) في الملتقى،وهي التهمة التي تأكدت وثبتت بعد أن ألقيت ملخصات الأبحاث وبعد أن شوهدت شخصيات المستضافين في فندق ماريوت0
ربما فات وزارة الثقافة والإعلام أن هذا النوع من الاصطفاء الفئوي لا يخدم الثقافة ،ولا يتناسب مع البنية الثقافية لمجتمعنا،وهي البنية (المحافظة) والتي بمحافظتها الدينية والأخلاقية والسلوكية استفزت بعض (المساهمين المختارين )فأكد بعبارة متشنجة بائسة بأن العدو الأول للمسرح والثقافة والفن هو (المجتمع المحافظ) وأضاف آخر بل هي الصيغة الدينية وفتاوى علماء الشريعة0
وقد تحدث مجموعة من (المساهمين المعنيين) وبعض جمهورهم من ( المحلفين المستضافين) بأنه لا أحد يهتم بهم في المجتمع ولا يحضر مناشطهم ولا يقبل على بضاعتهم إلى آخر (البكائيات العاشورية) مما حدا بأحد المعقبين للقول :
(إذا كان المجتمع لا يقبلكم والفتاوى لا تتوافق معكم ومؤسسات المجتمع بأنوعها لا تستجيب لكم –حسب قولكم- فمن أنتم ؟ ومن تمثلون ؟ ومع من تتحدثون؟)
هذه النقطة الحساسة والمهمة هي التي لم يفطن لها (المطبخ الثقافي ) الذي أعد لهذا الملتقى ،أو أنه عرفها ولكنه تجاهلها ،معتمدا على تدشين المنتج وفتح المعرض والتبشير الحماسي بالأرباح ، وإيجاد موقع قدم رسمي،واستثمار لغة ونغمة المرحلة لطرح المنتج الكاسد اجتماعيا!!!
وقد فطن الأمير خالد لهذه النقطة الحساسة فأشار إليها في تعقيب مباشر بقول أذهل الجميع، فحواه، أنه لو أعلن عن محاضرة لأحد المشايخ أو الدعاة لحضر عنده أكثر مما سيحضر عندكم غدا ليلة الاختتام والتوصيات،ثم أضاف لابد من إشراك الاتجاهات المؤثرة في بلادنا لصياغة الاستراتيجية الثقافية!!
وإذا استعرنا فكرة (النسق المضمر) من د0 الغذامي لوجدناه ووجدنا ( المساهمين إياهم) يعيشون في وهم أنساق عقلية غير واقعية ،وغير متوافقة مع طبيعة السوق (المجتمع)وطلباته وحاجاته0
ومن تلك الأنساق المضمرة إصرار ( الإقطاعيات الثقافية إياهم) على المماحكة في أمور قد رسخت في أعماق المجتمع السعودي ،وتجذرت في ذاكرته ووجدانه،فلا تقوى كثرة الكتابة ولا قوة البيان ولا سعة الحيلة ولا سلاسة الأسلوب-إن وجدت- ولا المحاولة الجدلية،ولا توليد المعاني ،ولا زخرفة الألفاظ والتلاعب بها على إزالة هذا الراسخ أو زعزعته ،كاحترام أحكام الدين وأخذها من أهل العلم المختصين ،واحترام صيغ المحافظة الإيجابية المميزة لمجتمعنا،و ازدراء صيغ التفلت ،ولعبة التثوير والتحريش والانقلاب الاجتماعي ،واحتقار ممارسات التفجير الفكري والسلوكي0
هذا وأمثاله هو ما استفز أحد المعقبين ( من المشهورين بالتفجيرات الكلامية) ليقول بحماسة ثورية (المثقفون هنا خاضعون للشرط الاجتماعي ) ثم ضرب مثالا بكون النساء في صالة أخرى يشاركن عبر الشبكة ولسن مخالطات للرجال ،مؤكدا بانفعالية تدعو للرثاء بأن ذلك يشبه (مجلس للرجال ومقلط للنساء)0
ولا تقل هذه الحماسة التأجيجية عن قول أحدهم –في تعميم جائر-بأننا نعيش (محنة مجتمع اكتشف أن ثقافته تنقلب ضده) مشيرا للفئة الارهابية0
وبنفس الانفعالية نسمع الآخر يصرح في بيان هائج مائج بان الثقافة لدينا ذات مجال ضيق لتبعيتها للدين من جهة وللسياسة من جهة أخرى0
وغير ذلك من البيانات والتصريحات الثورية التي انزلقت من بين شفاه (المستكتبين في السوق الثقافي الأول) والتي تؤكد مرة أخرى أن الملتقى كان نموذجا تسويقيا غير ناجح لافتقاره إلى إدراك قوانين اللعبة التسويقية التي حاول البعض ممارستها بغباء0
فلا يكفي مجرد التبشير الحماسي الذي سمعناه ،ولا مجرد الإثارة التي تعمد البعض اصطناعها، بل لابد من دراسة الشروط الموضوعية للسوق (المجتمع) فلو أخذنا أفضل أنواع الحاسب وسوقناه في الصحاري النائية فلن نجد له مشتريا،مهما كانت جودته،فما بالك بمنتج رديء يسوق في مجتمع رافض له،وما حدث في البحرين أكبر دليل على كساد هذه البضاعة، فقد أسس أصحابها (مراكز تسويقية ضخمة وأمسكوا بتلابيب الصحافة ومنافذ الثقافة) من الخمسينات الميلادية،ولما جاءت الانتخابات شاركوا فيها والنتيجة (لم ينجح أحد)0
وبعض المثقفين ( المساهمين في سوق الملتقى الثقافي الأول ) مازال على وهم أن المجتمع السعودي سيقبل منتجاته،وهذا يذكرني بسيارات ( اللادا) الروسية التي استوردت أبان حكم غورباتشوف، وجاء بها بعض التجار لبيعها في السوق المحلي فلقيت كسادا هائلا ،وذلك –بكل بساطة- لأن الناس لن تترك المنتج الجيد والعملي والمتين لتشتري سيارة إذا أقفلت باب السائق انفتح باب الراكب!!!
ربما انخدع مستوردوا (اللادا الثقافية) لدينا بتوقيت السوق ومجريات الأحداث وبضغط القوى الخارجية ،ولكنهم غفلوا عن أن مستوى (المنتج الثقافي) أهم من التوقيت0
إذا كان لي من نصيحة لأولئك المساهمين الذين يستحقون الرثاء أقول بوجوب إعادة تصميم المنتج الجاد ،وتقديمه ضمن أطر الثابت الذي يستعصي على الزعزعة قدريا واجتماعيا، وإلا لن تغني عنهم الحالات المهرجانية والجوائزية والاصطفائية والاقصائية ،ولن تفيدهم ثقافة الانحياز والترصد إلا المزيد من العزلة وكساد التجارة0