د. راغب السرجاني
التهديد العسكري للمدينة
لما وجدت قريش هذه الصلابة في المقاومة الإسلامية، وهذه العبقرية في الأداء الإسلامي، وهذه الاحترافية الدقيقة في بناء الأمم، وبعد أن عجزت في محاولاتها المتكررة في استئصال الدولة الإسلامية، لم تجد سبيلًاً إلا أن تستخدم سلاح البطش والقوة التي اعتادت عليه قبل ذلك، والذي اعتاد عليه عموم الجبابرة والمجرمين والمتكبرين في الأرض، وقررت القيام بغارة ليليّة مباغتة على المدينة المنوّرة، ضربة خاطفة لعلهم يقتلون رجلاً أو ينهبون مالاً أو يروّعون امرأة أو طفلاً أو شيخًا.
وهذه الغارة كانت بعد حوالي سنة من هجرة الرسول ، وكانت بقيادة كُرْز بن جابر الفهري -وهذا الرجل أسلم بعد ذلك t وأصبح من الصحابة- وقد أغار على المدينة ليلاً وسرق بعضًا من ماشيتها: إبلًاً وغنمًا وبقرًا، وخرج الرسول في إثره لكي يردَّ ما سُرق، لكن أفلت كُرْز بما نهب.
كانت هذه هي محاولات قريش للصدّ عن ذكر الله، محاولات قبيلة كبرى لاستئصال جذور حركة إسلاميّة ناشئة في طور البناء، ولكن لأن القبيلة الكبرى قريش تعلم أن الحركة الإسلاميّة البسيطة كانت لديها مقوّمات بناء دولة عظمية، فقد سارعت لهدمها ولم تغامر بترك هذا البناء ينمو ثم يبتلعها بعد ذلك، فعلت ذلك قريش، وكذلك تفعل القبائل والدول الكبرى، وأحيانًا يتعجب المسلمون إذا رأوا دولة كبيرة عظيمة تهتم بأمر مجموعة من المسلمين البسطاء الفقراء الذين يعيشون على بقعة لا ترى على خريطة العالم، والسر أنهم يقرءون التاريخ، أعداؤنا يقرءون التاريخ ونحن كثيرًا ما نغفل عن قراءته، قرأ أعداؤنا كثيرًا في التاريخ منذ عهد الرسول إلى عهدنا ذلك؛ لأنهم يعلمون أن أيّ مجموعة من المسلمين إذا عاشت بشرع الله وطبقت قوانين الإسلام في كل صغيرة وكبيرة في حياتها، ما تلبث هذه المجموعة القليلة إلا أن تنمو وتكبر، ثم تُمَكَّن في الأرض ويصبح تمكينها في الأرض خارجًا عن حدود الاستئصال، بل تصبح قوتها غير قابلة للهزيمة ما دامت مستمسكة بقانونها دون تحريف أو تبديل أو تكاسل أو إهمال، وقد تكرر هذا كثيرًا في التاريخ، وما زال يتكرر إلى الآن.
نموذج واقعي
حين أعلنت السودان أنها ستطبق شرع الله على بعض الولايات السودانية، ومع أن هذا التطبيق جزئيّ وليس تطبيقًا كُلِّيًّا إلا أن الدنيا قامت ولم تقعد؛ لقد ظهرت كلمة الإسلام في السودان، وهذا في عُرفهم أمر خطير، وتحركت قوى عظمى ودول كبرى لمنع هذا البلد من تطبيق شرع ربه I.
المراقبون يتعجبون لماذا تقلق دولة عملاقة مثل أمريكا، أو دول متقدمة مثل دول أوربا الغربية، أو إسكندنافيا، أو دولة قوية كإسرائيل تهتم بشأن هذا البلد الفقير البسيط الذي يصارع بضراوة من أجل الحياة -مجرَّد الحياة- والمجاعات في السودان تقتل الآلاف المؤلفة.
لماذا هذا الزَّخْم الإعلامي الكبير، وهذا التفخيم والتضخيم لأمر قضية السودان؟!
لقد ظهرت كلمة الإسلام في السودان، ولو قُدِّر لهذا البلد أن ينمو فقد يغيِّر من خريطة العالم، ليس للإمكانيات الاقتصاديّة المتوقعة ولا البترول ولا المزارع فحسب، بل لأجل البشر الذين يحملون الإسلام في قلوبهم.
وقد أدرك أعداء الأمة هذا الأمر جيدًا، في حين لم يفقهه الكثير من المسلمين.
ماذا فعلوا مع السودان الفقير؟!
إنه نفس السيناريو الذي فعلته قريش القبيلة العظمى مع دولة المدينة الناشئة.
أولاً: مراسلات لبعض الانفصاليين وخاصّة من بعض الديانات الأخرى؛ للقضاء على الحركة الإسلاميّة في مهدها، ويا حبذا لو أُثيرت فتن طائفيّة في أرجاء البلاد، كما فعلت قريش في مراسلاتها لعبد الله بن أُبيّ بن سلول، وهذا ما رأيناه واضحًا على شاشات الفضائيات وصفحات الجرائد.
ثانيًا: الحرب النفسيَّة ضد المسلمين في السودان بالتهديد والوعيد المستمر في وسائل الإعلام، وعبر السفارات، وعبر الأعوان والوسطاء.
ثالثًا: قطع الدول الكبرى لعلاقاتها مع السودان، وبذلك انفصلت السودان عن الواقع التي تعيش فيه، وهذا شيءٌ خطير للغاية.
رابعًا: تغيير القوانين والتنكر للأعراف الدولية، وتكوين الأحلاف التي ينكرها القانون الدولي، وهي الأحلاف التي تقوم بالتأثير على الدول الضعيفة لأجل أخذ قرار يضرّ بمصلحة دولة أخرى، ويكون هذا عن طريق المال أو عن طريق الضغط العسكريّ أو عن طريق أي ضغط سياسيّ، وهذا ما فعلته أمريكا ضد السودان، ضغطت على دول كثيرة جدًّا من أجل منع السودان من الحصول على مقعد إفريقيا في مجلس الأمن، وأعطوا هذا المقعد لدولة موريشيوس -جزيرة بركانيَّة في المحيط الهنديِّ تبلغ مساحتها 2045 كيلو متر مربعًا، تحيط بها الحواجز المرجانية، تقع إلى الشرق من جزيرة مدغشقر وعلى بُعد 300 كم منها- مع أن التصويت على المستوى الإفريقيِّ كان لصالح السودان.
خامسًا: الحصار الاقتصادي والضغط على الشعب إلى الموت، وما أحداث دارفور منا ببعيد!!
سادسًا: الغارات المفاجئة الغادرة لا على جيش ولا على كتيبة، ولكن على الآمنين، مثلما فعل كرز بن جابر الفهريّ في حربه ضد المؤمنين في المدينة المنوّرة، فعلت أمريكا ذلك عندما ضربت مصنعًا للأدوية في السودان بحجة أنه ينتج أسلحة كيميائيّة.
هذه هي صورة حرب الباطل مع أهل الحق دائمًا، وهي صورة طبق الأصل من التاريخ، ولن يخرج المسلمون في السودان وفي عموم الأمة الإسلاميّة من أزماتهم إلا بدراسة متأنية للسيرة النبويَّة، وبالاتباع الدقيق لكل فعل وقول للرسول .
قال : "تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ، لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَبَدًا: كِتَابَ اللَّهِ، وَسُنَّتِي"[1].
وقد رأينا كيف أخذ ارسول الله خطوات عملية واضحة للخروج من هذه الأزمة، وهذا الحصار وهذا الكيد والمكر المستمر من أعداء الأمة، فكان هذا هو ردّ فعل الرسول في التعامل مع الطائفة الخطيرة من مشركي مكّة وكفار قريش.
ويتبقى لنا طائفة خطيرة جدًّا لعلها أخطر من طائفة المشركين، وهي طائفة اليهود، والموضوع معها متشعب جدًّا، وله خلفياتٌ كثيرة وأبعادٌ عميقة في حياة الرسول ، سواء في فترة مكَّة أو بعد الهجرة أو في أواسط وأواخر الفترة.
وهو ما سنتناوله في المقالات القادمة إن شاء الله.
د. راغب السرجاني
[1] الموطأ برواية يحيى الليثي (1594)، ترقيم عبد الباقي. والجامع الصغير وزيادته (5248)، قال الشيخ الألباني: صحيح. انظر حديث رقم (2937) في صحيح الجامع.