د. راغب السرجاني
الحصار الاقتصادي
لم تكتفِ قريش بالحرب النفسية أو قطع العلاقات الدبلوماسية مع المدينة ومن قبل إثارة الفتنة الطائفية في حربها ضد المسلمين، لم تكتفِ بذلك بل إنها بدأت في تنفيذ خطوات أخرى عمليّة للتضييق على المسلمين، منها محاولة التضييق الاقتصادي على المدينة المنوّرة بالتأثير على القبائل المحيطة بالمدينة، وبالاتصال باليهود الذين يعيشون بداخل المدينة المنوّرة لمنعهم من التعامل مع المسلمين، وقد استغلّت قريش ما لها من نفوذ وما لها من علاقات مختلفة لتحاصر المسلمين، وتضيّق عليهم ولكن -سبحان الله- مع خطورة هذا الأمر لم يكن له التأثير الكافي في الدولة الإسلاميَّة. لماذا؟
لأن رسول الله منذ أول يوم نزل المدينة المنوّرة وهو يحسب لهذا الأمر حسابه، ويعلم أنه سيواجه مشكلة الحصار الاقتصاديّ من قريش للمدينة، ومن ثَمَّ كان يخطط تخطيطًا في غاية الروعة.
ماذا فعل رسول الله ؟
لقد أدرك الرسول من اللحظة الأولى التي بدأ يخطط فيها لبناء الأمة الإسلاميّة، أن الأمة الإسلاميّة لا يمكن أن تُبنى إلا على أكتاف أبنائها.
أهمية الاقتصاد الإسلامي
إن الاقتصاد الإسلامي إذا كان معتمدًا على الآخرين، فإنه سيصبح اقتصادًا هشًّا ضعيفًا لا قيمة له، فما بالكم لو كان يعتمد على عدو أو يعتمد على اليهود. إن المدينة المنوَّرة حال هجرة المسلمين إليها لم تكن فقيرة فحسب، بل كان اقتصادها إلى درجة كبيرة جدًّا في يد اليهود، وكان سوق المدينة الرئيسي هو سوق بني قَيْنُقاع، ولعله السوق الوحيد في المدينة، وكانت التجارة في معظمها تتم في داخل هذا السوق، وحتى كبار التجار من الأنصار كانوا لا يتعاملون إلا في داخل هذا السوق.
الأخطر من التجارة والسوق والمال هو أن الماء أيضًا كان في يد اليهود، وكان أهل المدينة يشترون الماء من الآبار التي يمتلكها اليهود، وأشهر الآبار بئر رُومَة وهو معروف ومشهور.
ماذا لو حدث اتفاق بين قريش واليهود؟
ماذا لو منع اليهود تجارتهم عن المسلمين؟
ماذا لو منعوا الماء عن المسلمين؟
فهذا الموقف لا يحسد عليه أحد، ومن هنا خطط رسول الله من أول يوم للخروج من هذه الأزمة بمهارة ودقة، وسطَّر لنا أصولاً أصبحت من الثوابت في التشريع الإسلاميِّ.
رسول الله وتفعيل الاقتصاد الإسلامي
وتفصيل هذه الوسائل يحتاج إلى وقت طويل، لكننا الآن نوجز بعض العناوين المهمة للخروج من الأزمة الاقتصاديَّة:
أولاً: حرْص الرسول على توفير الماء المملوك للدولة الإسلاميّة، وذلك لأن الماء سلعة إستراتيجية، ولا يصلح أن تقوم دولة لا تمتلك الماء؛ لذلك روى أحمد والنسائي عن الأحنف بن قيس أن رسول الله قال: "مَنْ يَبْتَاعُ بِئْرَ رُومَةَ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ!"[1] وهذه البئر كانت مملوكة ليهودي كما قلنا، فابتاعها عثمان بن عفان t، ثم ذهب إلى رسول الله وقال له: ابتعتها بكذا وكذا. فقال : "اجْعَلْهَا سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَأَجْرُهَا لَكَ". فقال: اللهُمَّ نعم[2].
وعثمان بن عفان t اقتصاديٌّ إسلامي كبير، وقد وجَّه جهده لشراء ما ينفع الأمة، بدلًاً من التجارة في شيء من الرفاهيات والكماليات، وكان هذا بتوجيهٍ من الرسول حيث وجهه لشراء السلع الإستراتيجية، التي هي في هذا الموقف الماء، وقد تكون السلعة الإستراتيجية في وقت من الأوقات البترول أو القمح أو القطن أو الطاقة النوويّة بحسب الظروف والأحوال.
ونلمح في هذا الموقف شيئًا في غاية الأهمية، وهو دور التربية الإيمانية في بناء الأمة الإسلاميّة، ففي هذا الموقف الرسول لا يملك شيئًا دنيويًّا يعوِّض به عثمان بن عفان t عن الماء الذي اشتراه، ولا يتوقع أن يشتري المسلمون منه الماء؛ لأن المسلمين فقراء، ومن ثَمَّ فقد حفَّزه النبي بشيءٍ عظيم، قال: "مَنْ يَبْتَاعُ بِئْرَ رُومَةَ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ!"[3]. وفي رواية: "فَلَهُ الْجَنَّةُ"[4].
ولو لم يكن إيمان عثمان بن عفان يقينيًّا بالله ورسوله ، وبالجنة والنار لما هان عليه أن يدفع آلاف الدراهم دون أيّ عائد دنيويّ.
ولم تكن هذه المشكلة تُحلّ دون تطوعٍ من اقتصادي مسلم غني، يرغب في الدار الآخرة؛ لأن بيت مال المسلمين لم يكن به مال، لذلك -كخطوة أولى قبل بناء دولة- لا بد من الاطمئنان على إيمان وعقيدة الجنود الذين ستُبنى على أكتافهم هذه الدولة.
وبهذه الخطوة الجبّارة أمّن رسول الله الماء لأمته.
ثانيًا: الاستقلالية عن سوق اليهود، وإنشاء السوق الإسلامي الحر المعتمد على نفسه.
فالرسول علم أن الدولة الإسلاميّة لا يمكن لها أن تقوم في المدينة، وهي تعتمد على سوق بني قَيْنُقاع اليهودي؛ لذلك أمر الصحابة بأن يبحثوا عن مكان مناسب في المدينة المنوّرة ليصبح سوقًا للمسلمين، ويتحكم في تجارته المسلمون، ويُدار على شرع المسلمين وقانون المسلمين، وقد اجتهد الصحابة y في البحث عن مكان مناسبٍ للسوق، وذهبوا هنا وهناك وذهب الرسول بنفسه إلى أكثر من موضع، ولم يعجبه في البداية المواضع المختارة إلى أن رأى موضعًا يصلح من حيث المساحة والموقع، فقال : "هَذَا سُوقُكُمْ". وانظر إلى رواية الطبراني وابن ماجه رحمهم الله، عن أبي أسيد t قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ فَقَالَ لَهُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَوْضِعًا لِلسُّوقِ، أَفَلاَ تَنْظُرُ إِلَيْهِ؟ قَالَ: "بَلَى". فَقَامَ مَعَهُ حَتَّى جَاءَ مَوْقِعَ السُّوقِ، فَلَمَّا رَآهُ أَعْجَبَهُ، وَرَقَدَهُ بِرِجْلِهِ -أي ضرب موضع السوق برجله- فَقَالَ: "هَذَا سُوقُكُمْ، فَلاَ يُنْتَقَصَنَّ (أَي لا ينتقصن من قيمة هذا السوق، ولا من أرض هذا السوق)، وَلاَ يُضْرَبَنَّ عَلَيْهِ خَرَاجٌ"[5]. أي لا يصح للحاكم أن يضع قيودًا أو ضرائب على من يريد أن يتاجر في هذا السوق؛ وذلك ليشجع التجارة الإسلاميّة.
وهذا الأمر نجد عكسه في كثير من البلاد الإسلاميّة، فنجد القيود على رءوس المال الوطنية والتسهيلات لرءوس المال الأجنبية، فتنتشر رءوس المال الأجنبية وأحيانًا المعادية في بلاد المسلمين، وربما تنتعش التجارة نسبيًّا في فترة من الزمن، لكن بصفةٍ مؤقتة ويصبح السوق معتمدًا على رأس المال الأجنبي، وبالتالي تقع قرارات إستراتيجية خطيرة، سواء من ناحية الاقتصاد أو من ناحية السياسة في يدِ هذه الشركات الأجنبية.
وقد وضع هذا الأمر في اعتباره من أول يوم أنشأ فيه السوق الإسلامي، وبدأ المسلمون يهجرون سوق اليهود (بني قَيْنُقاع) ويتعاملون مع السوق الإسلامي، فكانت مقاطعة محمودة، وهذه المقاطعة لم تكن سلبية، بل كانت إيجابية بإنشاء السوق البديل، وإيجابية لإيجاد البضائع الموازية لبضائع اليهود وغيرهم.
ولا شك أن السوق الإسلاميّة في أولها كانت ضعيفة عن السوق اليهودية، لكن بمرور الوقت قويت شوكة الاقتصاد الإسلامي وأصبح الاقتصاد الإسلامي معتمدًا على نفسه. وكان هذا الاهتمام من الرسول من أول الدعوة ولم يكن أمرًا لحظيًّا في حياته ، بل ظل طيلة عمره يحفِّز الناس على إقامة اقتصاد إسلامي.
وحفَّز على التجارة وعلى الزراعة وعلى الصناعة، وعلى أي عمل مهما كان بسيطًا، وربط كل ذلك بالأجر والثواب عند الله تعالى، كما ربطه أيضًا بعزة المسلم والأمة في الدنيا، وأتبع كل ذلك بفيضٍ هائل من التشريعات والقوانين التي تكفل دقة وسهولة التعامل الاقتصادي، وتحفظ للجميع حقوقهم وتعرّفهم بما لهم وبما عليهم.
ليس هذا فحسب، بل علَّم الشَّعب أن الفساد بكل صوره حرام، وحرّم الرشوة والسرقة والاختلاس والإسراف والتهرب من الزكاة، وبهذا حفظ للدولة مالها وحقوقها وللشعب ماله وحقّه، وظهرت البركة في المال القليل، ومع أن المسلمين كانوا في البداية فقراء لكن زاد المال وتحسّن الاقتصاد، وخرج المسلمون من أزمتهم بنجاح بفضل الله ، وبفضل التشريع الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف: 96]. وهذه البركات رأيناها فعلًاً في المدينة المنوّرة.
فهذه النظرة الاقتصادية الثاقبة لرسول الله فوّتت على قريش فرصة محاربة المسلمين اقتصاديًّا، وفوتت عليهم أيضًا التحالفات التي كان يعقدونها مع اليهود وغيرهم، وخرج المسلمون فعلاً من عنق الزجاجة، وباتوا يعتمدون على أنفسهم في حياتهم، ومن لا يملك قوته لا يملك رأيه.
ومع كل هذه المحاولات من قِبل قريش والتي تبوء بالفشل لاستئصال شأفة المسلمين، لم تكتفِ قريشٌ بذلك، بل استمرَّت في المحاولة والكيد والتدبير، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
د. راغب السرجاني
[1] رواه النسائي (3606، 3607)، ترقيم أبي غدة. وأحمد (511)، طبعة مؤسسة قرطبة.
[2] السابق نفسه.
[3] رواه النسائي (3606، 3607)، ترقيم أبي غدة. وأحمد (511)، طبعة مؤسسة قرطبة.
[4] البخاري: كتاب الوصايا، باب إذا وقف أرضًا أو بئرًا واشترط لنفسه مثل دلاء المسلمين (2626).
[5] رواه ابن ماجه (2233)، وضعفه البوصيري في الزوائد.